نبراس المعموري
توقف التاريخ يوم توقفت الحضارة في العراق!!
ظهر انسان يتمتع بروح الفكاهة، من احضان مدينة الناصرية ونسيم الفرات وواجهة السلالم والمرتفعات والمنسيات، حيث اور والزقورة وهي تصرخ اشتياقا لمن يرمم هياكلها بعد ان هجرها عشاق الاثار.. أطال الشرح معرفا بنفسه: – انا ايليا الكلداني. ابتسمت قائلة له: – هيئتك لا تدل على انك ايليا فاي ايليا تقصد؟ – اجاب بتواضع.. انا علي الصغير، ولم اكن كذلك لولا ايليا! تعجبت لما قاله، وروحه المرحة جعلتني اودع الحزن للحظات وكأن والدي يهمس في اذني ليقول: “اتركيه يتحدث”.. فكان ايليا شخص بسيط يعشق مدينته، ومهنته التي توزعت بين التدريس في المعهد التقني وبين عشق تراب اور، والبحث في تفاصيل تاريخها، وملوكها ونظامها وسواحها؛ فما كان من كل ذلك؛ الا ان يطلق عليه سكنة المنطقة من المسيحيين “ايليا الكلداني” لما يتميز به من بساطة وحب وانسانية لكل مسميات العراق بعيدا عن الدين والمذهب..
عراق مصغر معتق بنبيذ الماضي بين دم السلطة، ونخب العشاء الاخير، والفوز بجولات بين جدران اقدم الحضارات السومرية، مصطحبا معه رفيق تلك الارض النابضة بالتاريخ والقصص.. حارسها ابا اشرف الذي ولد وعاش وتربى، هو واجداده هناك، وظل وفيا لتاريخ عائلته وشرف نيل حراسة المكان! برغم كل المغريات التي عرضت عليه من قبل الوفود الرسمية الاجنبية التي زارت المكان لترك العراق والتدريس في اعرق الجامعات، وبرغم تحصيله الدراسي البسيط الا أن ابا اشرف رفض وفاءً للمكان وارث اجداده.
تجولت معهما بين الاثار يشرحان لي ما هي الزقورة وما هو معبد الالهة انيانا.. الهة القمر، وكيف اسس ملكها لنظام فاق التصور، من حيث الري والبناء والتشريع والقضاء.. كل هذا وانا انظر الى صخور الزقورة وهي تسبح بين خيوط اشعة الشمس.. تناغمها؛ لتعلن ان التاريخ توقف.. يوم توقف كل شئ في العراق عن التطور والابداع.. ايليا مشاغب بعض الشئ، اراد ان يجذب انتباهي، او بالاحرى اراد ان يخرجني من عوالم الحزن التي اعيشها اثر فراق والدي؛ فكان يحكي عن عظمة الملكة شبعاد، والقيثارة، وعن طراز البناء وهو يقول لولا النساء لما عمرت هذه الارض! عرفت حينها ما يقصد وعرفت انه يندب حال مدينته، فالمجتمع لن يتقدم ما لم تعم العدالة التي قارورتها القوانين، والعدالة كانت انموذج لحضارة اور؛ فزقورته بنيت وهي تحتضن دار القضاء.. لكل استحقاقه ودوره ووجوده، ولولا ذلك لما كانت هناك حضارة ولا الزقورة بلغتها الانثوية..
ودعت المكان كاتبة في ارشيف اوراقي.. الهة الابداع دُمِّرت حينما دمر الانسان حضارتنا فتوقف العالم! تجمد عندما كف الفكر البشري عن الاختراع من ارض عرفت كيف تصاغ الاختراعات.. ومحافظة ذي قار انموذج تاريخي كبير رصع باثار اور ونتاج ملكوها وملكاتها.. ما اتمناه ان تحظى هذه المدينة بالبناء والاعمار؛ لانها تستحق، والاهم من ذلك ان نداوي جروح اثارها؛ فمن المعيب ان تهمل، واعين الخارج تنتظر فرار ديارها؛ لتهم هي باستيطانها.. رسالة لمن يهمه الامر ان كان اليوم هناك ايليا وابو اشرف وغيرهما من الغيارى العراقيين؛ فغدا يرحلون وحينها لن يبقى حجرٌ على حجرٍ..