اعداد: نبراس المعموري / رئيسة منتدى الاعلاميات العراقيات
الطائفية : هي ميل فردي او اجتماعي لتفضيل تفسير محدد او مدرسة فقهية محددة لدين او مذهب على غيرها من الاديان او المذاهب، يتأثر بظروف اقتصادية – سياسية، وتتداخل فيه صفة التعصبية مع مفهوم اعتبار الذات في تفضيل ابناء المذهب او الدين على غيرهم من المنتمين لمذاهب او اديان اخرى.
تتصاعد هذه الميول احيانا، الى حد تتخذ فيه اشكالا عدوانية تجاه المذاهب او الاديان الاخرى، وميلا للنبذ والرفض وحتى العزلة عن الاخرين.. اي هي نتاج تفاعل عوامل سياسية – اقتصادية – اجتماعية، ذات مساس مباشر بحياة الفرد اليومية، امتزجت مع تهديدات امنية للهوية الثقافية للمجتمع؛ لتشكل توجهاتٍ اجتماعيةً تعصبيةً نحو الاخرين، الذين يختلف معهم الطائفي في تفسير الشريعة او المعتقدات الدينية.
لذلك استعملت الطائفية أساسا لوصف الصراعات الدينية بين المسيحيين والمسلمين[1].
تتميز البنيتان.. الفكرية بالنسبة للمذاهب والاجتماعية بالنسبة للطوائف، في هذه الحقبة، بسمات خاصة، تختلف عن الحقبة التي سبقتها، والخلط بين الاثنتين هو أحد أكبر الأخطاء في الدراسات السوسيوأنثروبولوجية عن الطوائف؛ فالطوائف في الحقب الماضية، جزء من التنظيم الاجتماعي، وفكرها امتداد نابع من الأيديولوجيا الدينية السائدة، وهي لذلك تعتبر “طبيعية” بمعنى اتساقها مع البنى السياسية والاجتماعية والثقافية، اللامركزية، بتعدّدها وعزلتها عن البعض.
الظاهرة المدروسة هي نتاج عوامل عدة: سياسية (النظام السياسي) واقتصادية وثقافية وأيديولوجية ومؤسساتية… إلخ، أي انها نتاج علاقة الدولة الحديثة بمجتمعها المتعدّد، وتأزم هذه العلاقة، وما نجم عنه من تمييز وعسف وإفراغ المجتمع، فاتحاً المجال لتسييس الهويات الثقافية للطوائف، بل (أحياناً) عسكرتها (العنف السياسي) [2].
الطائفية تختلف جذرياً عن الطائفة؛ لأن الأخيرة هي تكوين تاريخي وامتداد اجتماعي وإرث طقوسي تواصل عبر اجتهادات فقهية ومواقف نظرية وعملية، اختلط فيها ما هو صحيح ومنفتح، بما هو خاطئ وانعزالي أحياناً، لكنها تكوين أصيل وموجود وتطور طبيعي، وليس أمراً ملفقاً أو مصنوعاً، بينما الطائفية: توجّه سياسي يسعى إلى امتيازات أو مكافآت باسم الطائفة أو ادعاء تمثيلها أو إثبات تميزها عن الطوائف الأخرى، حتى إن كان بعضها فقهياً أو شكلياً، وأحياناً مفتعلاً نفعيا [3].
يظهر من خلال ذلك أن الطائفية السياسية تنتمي إلى الطائفة كوحدة إنسانية واجتماعية وسياسية، ولا علاقة لها بالمذهب أو التمذهب، لأنها مفرغة – في حقيقتها – من الأبعاد العقائدية والفكرية والفقهية، لكن السلطات تستثمر هذه الأبعاد وفقاً للحاجة، بغية تحقيق أهداف سياسية.
التدخل الاجنبي، غذى الطائفية، وفق سياسة “فرّق تسد” كنوع من حرب إستباقية شنها قبل الدخول للعراق في 9 نيسان 2003؛ لأن الشرق الأوسط المسلم المتحد، يكوّن الخطر الوحيد على مستقبل أوروبا، وهذا ما يؤكده المبشر لورانس براون: « يجب ان يبقى المسلمون متفرقين، ليبقوا بلا قوة ولا تأثير».
نظرية صراع الحضارات، عززت هذه المخاوف؛ ما استوجب وضع خطة من أجل تأجيج الصراع الطائفي والصراعات الفئوية على أنواعها؛ لتعميق الانقسامات والتجزئة في العالم الإسلامي؛ فتحولت الطائفية وأخواتها إلى نظام تقسيم وفتنة ضد القومية وكل اتجاه وحدوي.
على سبيل المثال الطائفية في لبنان، أصبحت نظاماً شمولياً يعم البنى السياسية والاجتماعية والثقافية [4].
تفشت المحاصصة في العراق، بعد الاحتلال؛ إذ كرّسها مجلس الحكم الانتقالي, الذي شكّله الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر, وربما إلى حدود معينة هو ما كان سائداً ايضا في لبنان، لا سيما في دستوره بعد الاستقلال عام 1943، الذي أوحى بذلك، حيث تكرّس الأمر بعد الحرب الأهلية, خاصة في اتفاق الطائف عام 1990، واتخذ بُعداً آخر في السودان، خصوصاً الوضع الخاص في الجنوب, وهي بلدان شهدت انتخابات وصراعات أخيرا، وما تزال على مفترق طرق مهددة بوحدتها الوطنية، وإن لم يقتصر الأمر على هذه البلدان الثلاثة حسب، بل أمسى التشظي الطائفي والمذهبي والإثني والتمترس الديني، جزءًا من خصوصيات المرحلة، متجليا بما يتعرّض له المسيحيون في العراق، واليزيديون والصابئة.
الفتنة الطائفية، اتخذت بُعداً تطهيرياً وإقصائياً وإجلائياً خطيرا، بعد 2006، وتتضاعف المشكلة عندما ثبت أن بعض المنخرطين في البغضاء الطائفية وإشعال نار الحقد والكراهية، لا علاقة لهم بالدين، فهم غير متدينين ويفتعلون تعصّبا لطائفة لا تحتاجه، إنْ كانوا غير متدينين أو حتى غير مؤمنين أصلاً، وهو ما أطلق عليهم عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي، إنهم طائفيون بلا دين، وبذلك تكون الطائفية عامل تفتيت، وانقسام للمجتمع وواحداً من أمراضه الاجتماعية الخطيرة، إذا ما استشرت؛ لذا فإن بين الطائفية والمواطنة فرقا كبيرا وشاسعا، والمواطنة ليست طائفية، حتى وإن انتمى المواطن إلى طائفة، إلا أن الأساس الذي يربطه بالمواطن الآخر هو الوطن والمواطنة والحقوق المتساوية.. المتكافئة، والمشترك الإنساني في إطار سيادة القانون، وإذا ما أقرّ الجميع ذلك، وفق دستور ينظم علاقة المواطن بالدولة، فالأمر يقتضي أن تكون هي المرجعية وليس غيرها، وهو ما يتطلب التصدي لمرتكبي الطائفية، طبقاً لقانون يحظرها ويعاقب من يدعو أو يروّج أو يتستر عليها، أو يتهاون في مكافحتها أو يخفي معلومات عنها؛ بهدف تعزيز المواطنة وتعميق أواصر اللحمة الوطنية والوحدة الكيانية للمجتمع والدولة [5].
ابرز المؤثرات الخارجية والداخلية التي تذكي الطائفية وهي [6] :
1- توطيد «الدولة اليهودية» في فلسطين وغلّبة الطابع الديني على الصراع العربي الإسرائيلي، اجج النزاعات «الأقلوية» والفئوية، وأشعلت نار التعصب الطائفي بهدف تبرير مشروعها الثيوقراطي بقيام دولة دينية تكون نموذجاً لدول طائفية أخرى.
2- تنامي الحركة السلفية و«الطوائفية» والمذهبية في المنطقة وتغليبها الطابع الديني على صراعها ضد الاحتلال.
3- تصاعد الحرب الأميركية على «الإرهاب» أوحى بعداء الغرب المسيحي للدين الإسلامي، وهذا العداء توسل مقولة «صراع الحضارات» كوجه آخر لصراع الأديان، من أجل تغطية أطماع الولايات المتحدة الأميركية التوسعية ومشاريعها للهيمنة على العالمين العربي والإسلامي، والتفرد بإدارة العالم، وهذه الحرب التي تشنها أميركا ضد «الإرهاب الإسلامي» تنعش العصبيات الطائفية في العراق، وتضع بعض الأطراف الطائفية في حيرة وريبة بين الانحياز لأميركا، للتخلص من التطرف الإسلامي، الذي قد يطالها، وبين العداء لأميركا من دون ضمان اتقاء «شر» الحركات السلفية الظلامية التي لا تميز بين أعداء أميركا وبين من هم خارج “حظيرة الاسلام”.
4- المشاحنات والصدامات التي تحصل بين المذاهب المختلفة داخل الدين الواحد، على امتداد العالمين العربي والإسلامي، لها انعكاسات سلبية.
5- تكريس الطائفية والمذهبية التي برزت ونمت وأصبح لها نظام سياسي، يقوم على أساسها باتت نموذجاً، تقتدي بها دول المنطقة، فقد ارتكز النظام في العراق على نظرية التعددية، التي أعطي لها ضمنا صفة «الدينية» أو «الطائفية» أو «الاثنية» فغدت مقولة سائدة في النظريات السياسية المتداولة في أكثر من منطقة عربية.
6- الطائفية والمذهبية في العراق، تنمو اليوم وتزدهر وتستمر في ظل نظام اقتصادي سياسي تربوي «مخلع» ومفكك يقوم على أرضية مجتمع مقسم، حيث القاعدة موزعة على كونتونات مذهبية، ولا يمكن تجاوز الطائفية أو الحد من تأثيرها قبل قيام نظام اقتصادي يعتمد أساساً على الإنتاج، وتفعيل دورة الحياة الواحدة على مستوى المساحة العامة للوطن؛ ما يعزز الاندماج الوطني.
7- المذهبيات.. العراق له مرجعيات روحية خارج حدود الدولة، منها يتبع ايران ومنها يتبع السعودية وقطر، والصراع الذي ينشب أحياناً بين هذه المراكز الدينية ينعكس سلباً وإيجاباً على أبناء هذه المذاهب في العراق .
8- من مرتكزات المذهبية والطائفية في العراق، ارتفاع بنيانها على أساس «مجتمع أهلي طائفي» إن حركة المجتمع المدني تشق طريقها بصعوبة من أجل بناء مؤسسات مدنية فعلياً، أي غير طائفية أو مذهبية وغير ميليشوية وغير نفعية أو فردية.
9- العلة أن الطائفية والمذهبية تغزو المجتمع والإنسان، بعدما تفشت في دوائر الدولة ومؤسسات النظام على مختلف المستويات، وهي الآن تحتل معظم الساحات حيث أصبحت المؤسسات الخاصة ومؤسسات المجتمع ذات لون طائفي ومذهبي .
ماذا يترتب عن الطائفية [7]:
– ارتفاع معدلات العنف والخروقات الامنية والاغتيالات المنظمة على اساس الهوية وهذا ما حصل بعد 2003 في العراق .
– ينجم عن المظلة الطائفية احتماء المحسوبين وحتى الزعامات بها، فساد وافساد يستشري، واضعاف دور هيئات الرقابة في الإدارة، الى جانب تناقض هذا النمط المتبع بالأساس مع معايير الكفاءة والنزاهة في الوظيفة.
– استخدام النظام الطائفي كوسيلة لتشويه الوعي الطبقي والاجتماعي، لتفريق وتقسيم صفوف الطبقة العاملة والفئات الشعبية الأخرى على اساس عامودي طائفي ومذهبي، تجنباً لتوحيدها في النضال النقابي والشعبي والسياسي، دفاعاً عن قضاياها وحقوقها ومصالحها المشتركة.
– يستولد النظام الطائفي كممر اجباري للحصول على وظيفة وحتى خدمة، نمطاً من السلوك للمواطن يجعله محكوماً بالحصول على تزكية مرجعية أو زعامة طائفة. وهذا ما يجعل المواطن مرتهناً وتابعاً لهذا الزعيم او المرجع، ويشيع ذهنية الارتهان والمحسوبية والوصولية بغرض اعادة انتاج بنية السلطة والطبقة السياسية نفسها.
– البنية الطائفية للسلطة والنظام، تتيح التداخل والتقاسم، كما يجري، بين سلطة الدولة وسلطات الطوائف. بدلاً من ان يكون دور الدولة وسلطتها هو السائد والوحيد في مختلف مجالات حياة الدولة والمجتمع
– تؤدي الطائفية الى الالتباس والضياع بين مفهوم الوطن والانتماء اليه، وبين مفهوم الطائفة والانتماء اليها. وينجم عن تعميم ثقافة الطائفة بديلاً من ثقافة الوطن المبنية على وحدة المواطنية، اضعاف الرابط والشعور الوطني كجامع اساسي مشترك لكل الشعب.
علاقة الاعلام بالطائفية:
لا نستطيع ان نتكلم عن الاعلام والطائفية، من دون ان نقول ان النظام العراقي بتركيبته، هو نظام طائفي، ومن الطبيعي ان يكون الاعلام في العراق اسير تركيبة هذا النظام.
انعكست المشكلة “الطائفية” على الإعلام العراقي واخذ يواجه تحديات عديدة، بعد التصعيد السياسي الذي اتخذ بعدًا طائفيًّا، ويبدو أن وسائل الإعلام، وجدت مناخًا من الحرية المتاحة، تأثرت بالصراعات السياسية والطائفية من جانب، ولم تتمكن نتيجة لحداثة التجربة والتدخلات الخارجية من انتهاج مواقف تعبر عن الحيادية المطلوبة، وتبني خطابٍ وطنيٍ جامعٍ يقلل من حدة أخطر أزمة تواجه بناء العراق، ممثلة في الطائفية من جانب آخر.
على الرغم من أن الدستور العراقي سمح بحرية الرأي والتعبير، فإن ثمة مؤشرات عديدة تؤكد تداخل السياسي بالطائفي، سواء فيما يخص الاستهداف المتعمد للإعلاميين والصحفيين على أساس طائفي، أو فيما يتعلق بسوء استخدام الوسائل الإعلامية، لتكون معظمها بمثابة إحدى أدوات التوجيه السياسي المقصود خدمة لطائفة محددة.
المشكلة الطائفية المتجذرة والواضحة بأغلب وسائل الإعلام العراقية، ليست انعكاسًا للصراع السياسي في الداخل فقط، بل إن لها امتداداتٍ إقليميةً وأخرى دولية، تؤثر من خلال التمويل وتوجيه الرأي والحض على العنف؛ لتحقيق مكاسب ذاتية، وهو ما يقتضي توافق الإعلاميين في المنطقة العربية على وضع مبادئ أساسية لتنظيم البث الفضائي، أبرزها ضوابط تمنع بث ما يؤدي إلى تأجيج الصراعات والحروب الداخلية، أو تفتيت الوحدة الوطنية للدول، أو إثارة النزعات المذهبية والطائفية.
هناك وسائل اعلام تعلن عن نفسها بانها (مستقلة) لكنها بذات الوقت لا توزع نقدها الا على اطراف محددة مسبقا، فيما تعصم نفسها عن انتقاد الجهات الاخرى، سواء أكانت تلك الجهات بلداناً ام احزاباً وشخصياتٍ سياسيةً، بل تلمع الصورة المشوهة اصلا.
ومع اننا نلاحظ تعددية وتنوع في مجمل الطيف الاعلامي العربي، الا ان ذلك التنوع ناتج اساسا عن تعدد وسائل الاعلام ولم يكن ناتجا عن توفر التعددية في كل وسيلة اعلامية على حدة؛ ولهذا فمن الطبيعي جدا ان تكون الاسماء والمواقف مكررة في كل وسيلة اعلامية؛ طالما كانت هذه الاخيرة تسوق وجهة نظر لون واحد، له دائرة معروفة من المدافعين عنه [8].
وعندما نقول مؤسسة طائفية، بمعنى ملكيتها وفريق العمل وإدارتها من الطبيعي سينتج عنها سلوك طائفي مرتبط بالتمويل، على الرغم من ان الدولة تفترض بها مراقبة التمويل لهذه المؤسسات.
نادرة هي المؤسسات التي تعيش من الاعلان والمبيعات والاشتراكات، ومعظم وسائل الاعلام ممولة لأهداف سياسية وطائفية؛ ما ضيق هامش الحرية، حول العاملين فيها, مقيدين بالمرجعية المالية التي تؤمن لهم راتبهم آخر الشهر.
وبحسب دراسات خاصة بالمحطات التلفزيونية على سبيل المثال، يبلغ الحد الأدنى لكلفة بنائها سبعة ملايين ونصف مليون دولار، والحد الأقصى أربعة وعشرين مليونا، أي أن المعدل الوسطي يبلغ خمسة عشر مليونا، وإذا ما حسبت كلفة بناء ثماني محطات، فإن الكلفة تبلغ مائة وعشرين مليون دولار.
الاعلام الطائفي والاعلام الديني:
توجد في العراق مؤسسات ذات طابع ديني واضح، تنقل برامج دينية، ولكن قسماً منها تنحاز او تشجع المناخ الطائفي؛ بسبب أحادية طرحها.
جمهورها مقتصر على فئتها الطائفية الضيقة، لا تسمح دائما للاطلاع او التعرف او خلق حوار بين مختلف المذاهب والاديان؛ من اجل تشجيع نوع من ثقافة دينية حضارية مشتركة.
اذن الاعلام الديني في العراق احادي، يخضع لمزايدات رجال الدين؛ ما يخلق حالة طائفية تشجع الروح الطائفية التي نتذمر منها.
لا يكتسب التنوع الديني في المجتمع اهمية سياسية الا اذا ترتب عليه تنافس او تنازع او صراع في مجالات القيم او الثروة او السلطة، وهذا ما سعت القنوات الاعلامية المتحزبة لتحقيقه، وهنا برزت حالة اخرى في الاعلام.. وكما وضحنا مسبقاً.. وهي الطائفية السياسية التي يعبر عنها بصيغة دينية، دخلت المذاهب السياسية ذات الصبغة الدينية في منافسة مع الدولة، التي تستند في الظاهر فقط الى مبدأ المساواة، سيما ان الانظمة السياسية في العراق قبل 2003 استمدت شرعية حكمها من القومية العربية، في حين اعتمد النظام الجديد (المعارضة) في العراق شرعية اخرى مختلفة، من خلال العقيدة الاسلامية؛ لذا جاءت الطائفية السياسية بصبغتها الدينية، ردة فعل للازمات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم الاسلامي، وهذا ما سعت له وسائل الاعلام لتصل في النهاية الى اسلوب اخر في الاعلام عرف بـ (الاعلام الطائفي) [9].
اغلاق القنوات:
كشفت تداعيات أحداث “الحويجة” هذه الحقيقة بجلاء، إذ برز التداخل بين السياسي والطائفي من قبل المسؤولين السياسيين، على اختلاف انتماءاتهم؛ لينعكس في توجيه اتهامات متبادلة بين لبعض القنوات الفضائية، فعلى خلفية هذه الأحداث اتخذت هيئة الإعلام والاتصالات العراقية -وهي هيئة مستقلة- قرارا في 28 أبريل 2013، بتعليق تراخيص عمل 10 قنوات فضائية جميعها باستثناء قناة “الجزيرة” القطرية و”الأنوار2″ (تتبع عناصر من الطائفة الشيعية) تتخذ مواقف مناهضة لحكومة المالكي، وهي “بغداد والشرقية نيوز والبابلية وصلاح الدين والتغيير والفلوجة والغربية” وبررت الهيئة قرارها بأن التغطية الإعلامية للأحداث كانت غير مهنية، ومُحرِّضة على الفتنة الطائفية والأنشطة الإجرامية؛ ما يعني وقف نشاط هذه القنوات بالعراق، وعدم قدرتها على تغطية الأحداث والتحرك داخل الأراضي العراقية.
ومع التوسع الذي عرفته وسائل الإعلام العراقية في الأعوام الأخيرة، بتجاوز عدد الصحف والمجلات أكثر من 300، وارتفع عدد الفضائيات إلى أكثر من 30 قناة؛ تعذرت الرقابة على هذه الوسائل كافة، من قبل هيئة واحدة؛ ما يستلزم عددًا من الإجراءات الإضافية لا تتعلق مباشرة بإعادة صياغة القوانين المنظمة لوسائل الإعلام العراقية، من بينها ضرورة تقويم السلوك الإعلامي على معايير واضحة وتأكيد الخط الفاصل بين الطائفي وغير الطائفي، لا سيما أن معارضي قرار وقف القنوات يرون أن هيئة الإعلام والاتصالات لجأت إلى تفسيرات غامضة حول التغطية المهنية المحايدة، ومعايير التعامل معها، وأنها لم توضح الخط الفاصل بين الطائفي وغير الطائفي [10].
الخطاب الطائفي :
1- هناك “كود” يعرفه المعنيون؛ فيتعاطفون مع تعابير فيها نوع من الاثارة للغرائز الطائفية، يبدو بالشكل، كلاما عن وحدة البلد ووحدة الدولة، لكن في الواقع كل مؤسسة اعلامية لها خطابها الموجه الى جمهور معين لتعبئته؛ اذن ليس فقط المؤسسات طائفية؛ إنما الخطاب المستعمل طائفي، ناتج عن تراجع او سقوط الايديولوجيات والافكار التي سادت فترة من الزمن، كان عندها بعد سياسي وليس بعداُ طائفياً، وتمحورت حول الفكرة القومية او الفكرة الوطنية او اليسار او الموضوع الفلسطيني او القضايا الاجتماعية او الفكر النهضوي والحداثوي.. نلاحظ تراجع الخطاب السياسي في الاعلام؛ بسبب سواد الخطاب الطائفي.. احيانا يتذاكى الاعلاميون على اللغة العربية لأنها حمالة أوجه؛ مستعملين تعابير وطنية الشكل: “وحدة وطنية” و”وحدة المجتمع” و”الاخاء” و”المشاركة” و”العيش المشترك”.
2- غياب الفهم الحقيقي تاريخيا، لطبيعة المذاهب والطوائف في البلد؛ أنعكس سلبا على الخطاب الذي يعمم تركيبتها.
3- طالما العاملون في المؤسسات الاعلامية غير مستقلين، وخطابهم لا يتوجه الى الجمهور من اجل الدفاع عن مصالحه او تطوير حالة اجتماعية او سياسية معينة؛ تتحول وسيلة الاعلام الى بوق للجهة السياسية.. الطائفية.. المذهبية، التي تنتمي اليها، ملزمة بالدفاع عن اخطائها “أنصر أخاك ظالما مظلوما” فما نراه على التلفزيونات، هو تبريرات مفبركة للأخطاء التي ترتكبها القوى السياسية والطائفية الموجودة [11].
البرامج التلفزيونية المباشرة:
يتحول الخطاب الى تراشق؛ عندما تموت السياسة ولا يعود لدى القوى مشاريع يطرحونها وبرامج إصلاح وتنمية, وهنا برأيي برامج “التوك شوا” المباشرة هي حالة مرضية وليست حالة صحية في البلد؛ إذ نصح اطباء في الجامعة الاميركية مرضاهم بالكف عن مشاهدتها؛ لأنها جزء من اسباب المرض.
فالذي يحكي كلاماً متزناً.. عقلانياً ومعتدلاً، ليس مرغوباً به وليس عنده شعبية كثيرة, بينما نلاحظ ان الذي يستحوذ على شعبية، هو الشتام كثير الانتقاد الذي يغازل السذاجة الطائفية ويعبئها للتضاد مع الآخر، مطلقا نكات، تطلي اوصافاً همجية على خصومه، لا تليق بمناظرة حضارية، وترتكس بوعي المتلقي الى ما دون المستوى الاخلاقي.
الجمهور:
تحول الجمهور الى حالة مبارزة كما في ايام الرومان, منقسما فريقين؛ وتحول.. كما في جمهور كرة القدم، يريد كلاماً يرضي غرائزه، اكثر من ان يعرف ما هي الحقيقة؟
اذن المشروع السياسي العقلاني، ذو البعد السياسي الذي يخدم مصالح الناس من خلال الاسهام بتحديث الدولة، غائب عن المؤسسات الإعلامية؛ لأنها تحضر نجوم المبارزة كي تجمع مشاهدين…
تفيد نتائج استطلاع لـ” المسلة ” حول تأثير المنبر الاعلامي على نسبة العنف في المجتمع، ان للخطاب الموجّه الى الجمهور، دور حاسم في تغذية العنف اذا ما تبنى الافكار المتطرفة التي تدعو الى الطائفية والمذهبية ، وبحسب الاستطلاع، فان 93% من المشاركين البالغ عددهم 544، يؤكدون ان الاعلام يغذي العنف في الوقت الحاضر بسبب الاجندة الطائفية، وتعتقد نسبة منخفضة من الجمهور ( 6% ) ان الاعلام يؤثر “جزئيا” على نسبة العنف في المجتمع، بينما بلغت نسبة الذي لا يرون علاقة بين الخطاب الاعلامي وتزايد العنف 2% من مجموع المشاركين. وعلى رغم قدرة الإعلام على تكوين رأي عام مضاد للعنف والإرهاب، وكل صور وأشكال الجريمة، الا ان الوقائع تشير غير ذلك، اذ اوغل الاعلام في الكثير من الاوقات في تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية [15] .
اين الخلل؟
1- اقصاء الاعلامي والمثقف الليبرالي، أحدث خللا وتقصيرا في اداء دوره النقدي المقوم.
2- ضعف دور نقابة الصحفيين العراقيين؛ غيب الحياة النقابية الحقيقية.
3- تحول المثقفين الى شريحة من مستشارين تابعين للسلطات.
4- تلاشي الأثر النقدي للمثقف والإعلامي في بلورة رأي عام لا طائفي.
5- تعدد مصادر التمويل الخارجية سواء اكانت دولية ام اقليمية، وفرض اجندات سياسية على المؤسسات الاعلامية.
6- ضعف التشريعات الضامنة لحقوق الصحفيين وحمايتهم من التهديدات والاعتقالات وعدم وجود قانون لحق الحصول على المعلومة.
الحلول: برأيي في وضعنا الحالي:
أ – الطائفية: في المرحلة الاولى مطلوب وعي شامل بالطائفية وتناقضاتها تأسيساً لفكر وطني ديموقراطي جديد؛ فهي ليست كتلة تاريخيةً متماسكة عبر الزمن؛ إذ في حالاتِ الحروب تتمكن السلطتان الطائفية والسياسيةُ من استنفار جمهورها وتعبئة عناصرها وطمس مؤقت للتناقضات الموجودة داخلها، بينما قوى التغيير مدعوة إلى دراسة الطائفية في ظرفِها الاجتماعي، وفي بنيتِها الداخلية ما يظهر التناقضات الذاتيةَ السياسيةَ والطبقيةَ والعائليةَ وغيرها.. ان الغوص في أعماق الطوائف يظهر التباين والتناقض الذي يساعد على تفكيك الطائفة و إخراجها من انغلاقها.
ما دامت الطائفة ظاهرة تشمل البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية؛ فإن النظام المدني يقدم رؤية جديدة قادرة على مواجهتها وتغييرها، والبدائل التي سبق وطُرحت، ظلت هامشية ونخبوية ولم تتمكّن من لعب دور فاعل في الدولة والمجتمع؛ لذلك عملية الانتقال الى نظام مدني على اساس المواطنة هو مسار تغيير جذري يشمل تجديد حياة الدولة والمجتمع والإنسان؛ مما يتطلب إطلاق ثورة تاريخية تؤسس لنهضة جديدة بعدما استنفدت النهضة الأولى التي انطلقت في القرن التاسع عشر أهدافها وأغراضها.
تستلزم الثورة تحولا علميا وثقافيا، بخطوات منهجية، يفندان الطائفية السائدة ويغيران سلّم القيم التقليدية ويعيدان إنحياز الانسان إلى حريته.
بناء دولة مدنية دستورية عصرية، واحترام حقوق المواطنة كاملة، يقتضي وضع حد للطائفية السياسية؛ تمهيداً لتحريمها ومعاقبة القائمين عليها أو الداعين لها أو المتسترين بها، وهي الطريق الأمثل للوحدة الوطنية والهوية الجامعة – المانعة، التي تغنى بها زياد الرحباني: “يا زمان الطائفية.. خليّ إيدك عَ الهوية”.
ب- الاعلام:
1- الحد من تدخل الحكومة والاحزاب في الاعلام.. المطلوب ان يكون عندنا اعلام وطني “شبكة الاعلام العراقي” اعلام لديه برامج مشتركة تختلف عن باقي المؤسسات الطائفية، والا يتطرف فئوياً.. إنما يظل اعلام دولة، يقف على نفس المسافة من الجميع، ولا ينحاز الا للحق المشخص والملموس والثابت من دون تأويل ولوي للحائق.. موضوعيا؛ فهو ممول من الدولة وليس عنده تبعية للخارج او للنفوذ المالي. المطلوب ان يذهب اكثر.. ينتج برامج توعية مدنية تخاطب وجدان الجمهور لخلق وعي وطني مفتوح على الحوار المشترك، الجامع للطراف كلها، متميزا عن وسائل الاعلام الفئوية، ذات اللون الواحد، منتجا برامج لا تعنى بجذب اعلانات انما تهدف الى التوعية والتربية الوطنية المطلقة.
2- تطوير القوانين المهتمة بالاعلام، وإشراك القضاء في ملاحقة السياسيين ووسائل الاعلام التي تلجأ الى التحريض الطائفي والاثارة المذهبية .
3- سن تشريعات تضمن حماية حقيقية للصحفيين من التهديدات والاعتقالات، واعادة النظر بقانون حقوق الصحفيين الذي تبنته نقابة الصحفيين، والتسريع بسن قانون “حق الحصول على المعلومة” .
4- تنظيم حملات مدنية وثقافية لنبذ ومحاربة المؤسسات الاعلامية الطائفية .
5- الاعلان عن مصادر تمويل القنوات والمؤسسات الصحفية المرتبطة بأحزاب سياسية من خلال سن قانون الاحزاب ومعرفة مصادر التمويل .
6- تطوير وبناء قدرات الصحفيين في كيفية التعامل مع الخطاب الاعلامي والبرامج المباشرة والاستعانة بالخبراء وذوي الاختصاص
7- عدم تدخل الحكومة بعمل هيئة الاعلام والاتصالات، إلتزاماً بنص الدستور على كونها هيئة مستقلة .
8- خلق قنوات اعلامية ذات امكانية عالية لصد محاولات الاعلام الخارجي القائم على التحريض والاقتتال، مستعينين بالكفاءات الاعلامية العراقية الحقيقية بعيدا عن المحسوبية والمنسوبة، وخلق تنوع داخل المؤسسة الواحدة .
9- انتقاء المستشارين الاعلاميين للسلطات الثلاث، ومراجعة الخطاب الاعلامي للسياسيين، بعيدا عن التحزبات والميول الدينية والطائفية .